القرداش، رحلة من الأضداد بحثا عن فحوى الذات

 إسم الكتاب: القرداش

إسم الكاتب:وليد بن أحمد

      ذاكرة تتحدى الفناء وجسد يٌروض الموت ويٌلاعب الألم من أجل البقاء وطبيب يسافر في أغوار الوعي ولا يعرف لنفسه  هدوء  وكاتب يٌمسك بخيوط الماضي والحاضر ويراوغ الواقعي بالخيالي . 

 حروب ذهنية وجسدية وأخرى من الزمن القديم  تائهة في تجاويف الذاكرة وكمٌٌ هائل من صراعات الحياة و الموت  على أريكة  اللقاء  والتعامد والتقاطع والتوازي في دروب خصبة   وجدباء .

موت مثقل بالحياة وحياة مسكونة برائحة الموت  وطوفان من الذكريات وطبيب بين أروقة المستشفى يحاكي رائحة الأمصال ويسكب قنان الدواء في جفون الذاكرة وإنتفاضات "سالمة "على فراش صراعها مع ثعبان الموت  في عمر الست والسبعون سنة التي أمضتها بين ذكريات الرخاء والشقاء وعناق مع مرآة لازالت تحدثها عن مرود الكحل وأحمر الشفاه  وخفايا جسدها المسكون بالحنين إلى الشبق المفقود  ...

سفر وكرٌ و فرٌٌ  في رحلة من الأضداد بحثا عن  فحوى الذات ..رحلة أدبية شاقة خاضها الكاتب مشيا بنعال الإبداع  وخاضتها "سالمة" وطبيبها الدكتور"سفيان بن خليفة" بين  دروب التلاقي وممرات التضادد"...نحن نعيش بعالمين مختلفين.أنت تلتقي المرضى كل صباح،بينما لا يزورني غير الأصحاء...""( ص56).دروب تحولت فيها "سالمة" بكل أوجاعها إلى طبيب وتحول فيها الطبيب بكل بهرجه وعلومه ووصفات عقاقيره إلى مريض لا يعرف لخلاصه سبيلا.وبين هذا وذاك نشأت علاقة بين الشخصيتين ظلت تخفي أسرارها إلى آخر الرواية .

"القرداش" رحلة أدبية شاقة ،وجوقة  فنية  قاتلة تاهت فيها الكلمات بين خشخشات " القرداش" حين  يداعب خصلات الصوف لينزع عنه ما لصق به من أشواك  ومع رقصات "المغزل" حين يدور حول الفراغ تيها وحبا وشفقة على سيدته.تداخلت الأحداث و تعمقت التأوهلات  ومع لطمات "الخلالة" على خيوط "السداية". باحت الرواية بأقصى الخلجات..

عنوان الرواية "القرداش" ...قرداش" الكاتب المحنك"وليد بن أحمد" ليس ككل القراديش . فيه من البساطة ما يٌحيل ذهن القارئ إلى معارض الموروث القديم وإلى زمن الأجداد.قرداش من لوحتين يُنعّم  خصلات الصوف وينزع عنها كل الشوائب في حركة يدوية متكررة تبعث في روح "سالمة " قوة تدٌك جبال القهر والقحط والأنوثة المقهورة .وفيه من العمق ما يٌلقي بك  في عالم من الإيحاءات والتخمينات،و بين لوحتي الحاضر والماضي ظل الكاتب يفّك الأحداث من بعضها فكّا ثم يٌجمعها بين أسنان قرداش أدبي بأنامل الإبداع بحثا في فحوى العديد من القضايا الذاتية الضيقة  والوجودية الممتدة على مساحة ذهنية مسكونة بالأسئلة المشفرة.

أنثى و فراش و بطن على مسافة قريبة  من المخاض ولونان تائهين بين حياة وموت ...تلك هي صورة الغلاف  التي أرادها الكاتب أن تكون فاحمة بحجم الألم  النفسي والذهني و بيضاء ناصعة بحجم الأنوثة المتخفية في روح "سالمة" قاهرة المرض و تجاعيد الزمن.  

حوالي مائتي و ثلاثة صفحات  مجزأة إلى أربع وأربعون فصلا من سفر الهذيان الممتد على سبعة أيام من الزمن الباطني. لغة سلسة و أنيقة . أسلوب سردي ووصفي ممتعا إلى حد تشكل الصورة في ذهن متلقيها"...هل تعلمون كيف تضع سلحفاة البحر أبناءها؟إنها تطرح بيضها على رمال الشاطئ،ثم تنسحب عائدة إلى الماء دون أدنى إكتراث،وقد ترفس بعض حبات البيض وهي تزحف نحو اليمّ، كأنها تمــحو من ذاكرتها القــصيرة كل ما أتته على الشاطئ منذ حين...""(ص58) .

الأحداث في ظاهرها تدور بين أروقة المستشفى و في بيت "سالمة" و في باطنها لم تتعدى نوافذ الذاكرة التي تتحدى الفناء"...صارت ذاكرة سالمة تتحدى الفناء،وزادت مهمتي الثقيلة عسرا...""( ص58) .

أزمنة حاضرة وأخرى غابرة  وبين الغابر والحاضر تقبع "سالمة" في نقطة زمنية من الهذيان  تجعل من التاريخ أحداثا متفرقة ومن الأيام شواهد على وقائع  بعضها مضيء والبعض الآخر مٌعتم"...قالت لي أمي إني ولدت يوم الإثنين. وأذكر أنني تزوجت ليلة الخميس.وتوفي زوجي صبيحة الجمعة...""(ص38) .

الشخصيتان الرئيسيتان"سالمة" والدكتور "سفيان" تتنقلان  فوق ركح الأحداث في حركات لغوية ثابتة رصينة وفطنة  تجمع بين الحوار الخارجي والباطني و بين التساؤلات و ردود الأفعال  تنبع كلها من عمق الفهم في زمن الوجع "...لم أتحدث عن الموت، لكنني جئت لأخبرك بوجود أورام خبيثة بطرف القولون...""( ص77) .

.. شخصيات أخرى ثانية و ليست ثانوية أثثت الفضاء الروائي  فــ"عائشة" أم سالمة  كان مخاضها العسير شبيه بالمخاض الروائي في هذه السردية المتفرعة الأحداث . أما زوجها  وكنائنها و أحفادها(زوج و كنائن  وأحفاد سالمة) وبقية الشخوص فكانوا من صناع الحدث في بلدة صغيرة تنام و تصحى على أخبار الحرب  .

شخصيات أخرى غير مألوفة  تخرج بالقارئ عن المألوف وترتفع بالرواية إلى سلم الإبداع. الصوف والمغزل والسداية  والخلالة وجوقة من عذب النغمات والخلجات والسكنات  تحكي عن "سالمة"   في زمن التأوهات. "...و رقصة  المغزل الثملة،و دق الخلالة على أوتار السداية الشامخة.هالني مرأى الخلالة تسند رأسها في أسى إلى السداية الخاوية على عروشها. راحت أيام العمل حيث تمسك سالمة بالخلالة في نشاط,و تدق بها خيوط الصوف في السداية في سرعة حتى تلتحم تلك الخيوط في نسيج متين لا تشوبه الفراغات....""( ص49) .

تفاصيل صغيرة تصاحب الشخصية الرئيسية "سالمة" في مسارها الحياتي تقف شاهدة على عمق الجرح و تؤثث في ذهن القارئ معركة من التجاذبات الذهنية وتضيف للمسار الروائي  براعة  وقوة أدبية  حيث تتباعد أجزاء الصورة وتتجمع في حركة جمالية رغم ما تخفيه من مأساة. "...تطلعنا  بعضنا إلى بعض في حيرة.لم نشأ أن ننتهي في أيادي كنائنها،وكنا نجهل ما آلت إليه سيدتنا.. ظل المغزل حكيما إلى النهاية.لم أدر ما الذي دار بخلده،فقد ارتفع أنينه عاليا،وهو يتدحرج على رأسه نحو باب الغرفة في حشرجة مخيفة...خاطر المغزل بإنفصال رأسه عن جسده الهزيل البالي،واصطدم بالباب في عنف ليحدث جلبة قد تتناهى إلى مسامع أحدهم، فنعلم مصير سيدتنا...""(ص51) .

كيف تتوطد علاقة المريض بالطبيب وترتقي  إلى مرحلة الخصوصية ؟ ذاك هو السؤال  وكيف يصبح المريض جزءا من هموم ومن سعادة  الطبيب؟ ذاك سؤال ثاني.

كل الأطباء ومرضاهم يتقاسمون روائح العقاقير ووخز الإبر وحبر الوصفات  الطبية و يلتقون في مكاشفات و زيارات طبية إستشفائية  لأيام و أشهر الوجع و يغادرون  كعابري سبيل إلا الدكتور"سفيان" و نزيلته "سالمة" أصبحا يتقاسمان الوجع نفسه . "..يألف الطبيب مرضاه عادة،وتنشأ بينهم مودة وألفة، لكن سالمة لم تكن نزيلة عادية بكل المقاييس... ""(ص186).

الأمراض متعددة و الوجع أنواع و قمة الوجع أن يوقظ فيك وجع الجسد وجع الروح الذي ظننت أن الأيام استأصلته. فالحياة القاحلة  كأرض جدباء لا تنبت إلا الأشواك و لاتسكنها إلا الزواحف و بعض المشاعر المعتمة  مثل الزواحف تسري في صمت مميت إلى خلجات الروح فتربكها وتخل بتوازنها. و يتمدد حبل الروح ليمسك بفتيل طفو لي ."..ربما كان شعورا  ثالثا بات يقض مضجعي هذه الأيام.هل وقعت في حب سالمة؟ أحاول جاهدا نقض هذه الفكرة الخطيرة، لكنها تتـــشبث بي وتــــقاوم أي نداء مستغيث لعــــقلي. لو عاشت أمي لكانت في عمر ســـالمة. هل هي مرارة اليتم إذن؟ربـــما كانت حــــياتي القاحلة سببا  لهذه النوازع الغريبة.... "( ص164) . 

مريض السرطان "سالمة" لا يشبه أي مريض في علاقته بنفسه و بالآخرين  قد يقسو على نفسه و على غيره و يظل في حالة رفض متواصل "..كنت أعلم سبب غضب سالمة،فهي لم تقبل بحقيقة مرضها وضرورة خضوعها لعملية إستئصال الأورام الخبيثة من نهاية القولون عندها... ""( ص147) .و قد تتعطل لديه ملكة الإدراك إلى حدود لعنة الأقدار التي تلف سيقان السرطان حول جسده البريء من كل فساد"..لماذا يصيبني المرض دون غيري؟لماذا لم يمت به ذلك المأفون؟ هو من كان فاسدا  وليس أنا..... ""( ص156) .

الوطن و الأرض و هذيان سالمة و خدوش الذاكرة ...

رواية  "القرداش"حفرت في عمق الذاكرة خدوشا من عبث التاريخ  بجغرافيا الوطن والأجساد "...تٌبلى الذاكرة وينخرها النسيان،لكن الحرب  وويلاتها تتشبث ولا تمحى...""( ص61).  شظايا من أهوال الحرب العالمية  تناثرت من ذاكرة "سالمة" لتقصف الرواية  بقاذفات حب وعشق لهذا الوطن الذي تأذى من الإستعمار الخارجي وزحف "الفوهرر"  "...قال الحلاق أن الإنجليز لن يتأخروا في المجيء طالما يختبئ الألمان عندنا...""( ص41) و تأوّه  من خيانة الأوغاد بالداخل "... فكر عميقا، و قال: - أتدري يا إبن عمي، شبابنا يسرج المصابيح ليلا لإرشاد قاذفات الألمان إلى المباني التي يتحصن بها أبناء العكري.،..""( ص62) .و يظل العدو واحدا  والأرض  مقهورة.  

و في هذه الصورة الملتهبة بين أوجاع الحرب و إغتصاب الأرض يبقى "قاسم"رمز لكل متجذر في طين الأرض  يموت من أجل أن تحيا الزياتين إرتواء"...والزياتين عطشى.على أحدنا أن يموت وقد خيرت أن تبقى الزياتين... ""( ص169) .وبحروف صادقة تتشكل الراية التونسية  في عمق الأرض لتستنشق رائحة الطين و تلتصق بفيح الأجداد "...طأطأ فرج، وطفق ينبش التربة بعود زيتون جاف،ولم ينبس ببنت شفة حتى تشكلت الصورة تقريبا.صارت التربة لوحة جميلة بها نجمة كبيرة يحيط بها هلال في حنو وخشوع.. ""( ص102) .

و ما أشبه الأمس باليوم فإن كان المٌستعمرٌ القديمٌ معلوم الأهداف فمٌستعمر اليوم خفيّ،جليّ يراوغ الأوطان العربية  الممزقة بين عواصف التغييرات الاقتصادية والسياسية والفكرية  ويبتزها في عمق أخلاقها و مقوماتها الاجتماعية حتى أصبحت تعاني القحط و الجفاف بكل أصنافه "..دع هذا للمطر !ينتظرنا الكثير من العمل./ألا يكفينا المستعمر حتى نسمح للجفاف أن يستبيح أرضنا... ""( ص168) .

الأنثى والمرآة  وحديث الروح للروح ...

     يقال أن المرآة سر المرأة "...قيل لي أن المرآة سر المرأة،...لكن هيهات أن تتفوق المرآة على سيدتها.""( ص67) تصاحبها في محطات عمرها وتصبح رفيقة دربها وتتوطد بينهما علاقة ود فالمرآة تنادي  سيدتي والمرأة تنادي حاضنة جمالي وتفاصيل مفاتني وبوح قلبي خلف بريقك يختفي.وتتوطد العلاقة بين الأنثى والمرآة لتصبح غرامية  تطفأ فيها الأنثى شبقها وقد تتخاصم  من خلالها مع عقدها الأنثوية (في بعض الحالات )"...كنت أمسكها بيميني،بينما تجوس أصابع يدي اليسرى خبايا عوالم لذيذة و مجهولة من جسدي،وأرنو إلى إنعكاس بشرتي الشاحبة و جسدي النحيل على صفحتها العاكسة.عندما يخذلك الحب ،فلا مفر من البحث عن نصفك الآخر في مرآة...""( ص68).

هكذا عندما تصبح أشياءنا جزء منا وعندما تحيا لأجلنا و من أجلنا "تتشخصن" و تنهل من الروح  و في  روح الرواية تسكن وسط أٌبهة من  بهارات الأسلوب السردي دقيق التفاصيل    وعميق المهارات الأدبية  لهذا الكاتب أنيق اللغة "...أحكمت سالمة قبضتها الواهنة حول مقبضي البالي،وحدقت بي مطولا حتى ارتبتٌ و تساءلت من منا كانت ترثي لحال الأخرى.دخلت حجرتها منذ سنوات لم أعد قادرة على عدها،في علبة مخملية رفقة مشط عاجي جميل، ...""( ص31). عمق العلاقة بين سالمة"و المراية " باح بسرّه  في نشيج غمغمات موسيقية  قطفت من غصن الروح جدائل وجع عميقة الأثر"...راحت تمرر  أصابعها خلال ما تبقى من  خصلاتها.لا أدري ما الذي حدث لعينيها  ووجنتيها وشعرها، لكن قبضة باردة إعتصرت قلبي حين تصاعد صوتها الصدء مدندنا:.رجعلي لزيني يا مرايا....""( ص32).

لعبة الموت والحياة  وتحدي سكنات الموت من أجل ما تبقى من نفحات الحياة .وسؤال ما الموت  وما الحياة ؟ 

مشقة ذهنية صاحبت "سالمة" في هذيانها  أيام أسبوعها الأخير .ست وسبعون سنة من عمر "سالمة"  مضت في دروب الحياة بأنفاس ميتة منذ طفولتها  فهي التي نٌبذت من أهلها "..من يحتاج بنتا عرجاء لحرث الأرض وري الزياتين؟ من يحتاج بنتا لنقل أكياس الصوف الهائلة؟ .. ""( ص174) .//"..ليتني عاقرا، و لم أحمل بك أبدا. ""( ص174) .وهي التي  تلوت كالسنبلة الهزيلة على فراش التناسي الروحي. وهي التي دفنت  مشاعرها تحت وسادة خالية من  كل حياة. وهي التي  عاشت الموت  في عمر الحياة . "..من يحتاج زوجة جدباء بجسد قاحل لم يعرف إلى الحب طريقا؟...لم أخبر أحدا في حياتي أن المأفون  قد إستنفذ كل محاولاته و حيله ليعيد إلى جسدي نضارته وشبقه،... ""( ص175) .رحلة الإنجاب لديها كانت ناجحة فمن رحمها تسللت الحياة   ورحلة الحياة لديها كانت جــــدباء قاحلة وها هي اليوم  تعيش حياة ذهنية  في زمن المــــوت  الجــــسدي حيث تحول نصـــــفها الأسفل إلى بؤرة معفنة تسكنها كل القـــــوارض المسرطنة فـــ"...كيف يتحــــول رحم يهب الحياة إلى  لعبة في يدي الموت؟..." ( ص20) .

في طريقها إلى الرحيل ونكالة  في سيوف الموت ظلت "سالمة"صاحبة البصر الضعيف والبصيرة الممتدة إلى عيون القلب "...أفضل الموت على العماء. ..""( ص21) ،تراقص إيقاع الموت باحثة عن مرود الكحل و عن أحمر الشفاه عساها تستعيد نضارة وشبقا دٌفنا بين طيات الحياة "...أين مرود الكحل؟أحضرن أحمر الشفاه!..""( ص31) لتلتف حول أحضان الجمال إنتصارا للحياة "...دعني أتجمل للرحيل على الأقل ..""( ص27) .وظلت  مستغيثة  باسم "ناجية" و روح "ناجية " و ما ناجية  إلا شباب سالمة الذي تريد إستعادته ونضارتها و قوتها التي تبحث عنها صمودا أمام وجه الموت. "...نال مني الزمن يا أبي  وصارت أغواري متعفنة.دع مرآتي تسبرها .عساها تجد شيئا من ريح ناجية..لا تقل لي ناجية هناك، في السموات العلي.ناجية على هذه الأرض، قريبة يا أبي.ستعثر  المرآة عليها قريبا..""( ص69) . 

الموت  أقدارا و الحياة قرارا وبين الموت والحياة شخصية  ذات قوة غريبة إسمها "سالمة" تٌصرعلى البقاء والإنتصار فالأنثى لا تموت"..أتراهم يفقهون أن الأنثى لا تموت..."( ص15) وكاتب يٌبدع في تصوير لحظات  الموت بأسلوب  فيه من الجمالية اللغوية  براعة  مشبعة  لذهن القارئ  "..للموت إيقاع منتظم  كالطبيعة.تهطل الأمطار حينا، فينمو الزرع   وتنتصر الحياة. ويحل القحط والجفاف أحيانا، فتهوى رؤوس كثيرة..""( ص18) .

فهل الموت نهاية  أم خلاص وهل الخلاص بداية  لحياة جديدة ؟

 تأملات متعددة ساقها الكاتب  في طريقه إلى تحرير روح "سالمة" من عذاباتها القديمة  المتجددة "..و شهدت ساعات طويلة من الألم  عذابات الإحتضار،حتى خبرت أنه ليس أسوأ ما قد يتعرض له الإنسان. فقد يحل الموت أحيانا ليحررنا من أقسى عذاباتنا ..""( ص18) . أوجاع ذهنية ، روحية، نفسية، صاحبت هذه الشخصية  في سفرها على مركبة الهذيان .أوجاع تقاسمتها  مع طبيبها الخاص بالمستشفى الذي  لحقه الشقاء النفسي من  خلجات  وسكنات سالمة و من ضعفها و من قوتها حيث  فجرت فيه بركانا من التساؤلات و غيرت توازناته  وباعدت بين مساراته  وفرقت تقاطعاته  الحياتية "....كنت أعد الحياة شبكة معقدة من المسارات المتوازية و المتعامدة،خلت دوما أن لكل شــــيء ثــمنه العادل.لكنــــني أغفلت نظرية الــــزوايا على أهميتها،حتى دفعــــت ثـمنها ذات مساء عبرت به رواق مرضى العيون. ""( ص94)، وألقت به في زاوية من زوايا الحياة الواقع فيها أغرب من الخيال"..هل اختلق شخصيات أخرى؟هل أعتمد على الخيال لأنهي روايتي؟ لكن الواقع أغرب من الخيال غالبا... ""( ص188) .

ما أصعب أن تحاول الحياة وأنت على فراش الموت. الذكريات تلاحقك و الآهات تسبقك و أنت بين ضعف و قوة تثقب شرنقة العقل بمعول الهذيان "... ليس سهلا أن يستعرض  المرء شريط حياته عند خط النهاية،لكن الأشياء تبقى هنا وهناك في غرابة و تحد بغيضين.""( ص70)   وبين كفتي القرداش تٌمشط خصلات مسيرتك الحياتية بكل ما أوتيت من وعي و شراسة  ذهنية"...حينها صاح الصوف البائس في إستهجان مألوف: - بل قل بين فكيك أيها القرداش المفترس!إن أنيابك  النخرة تتضور جوعا....""( ص48) .فبعض الهذيان صحوة ذاكرة  يظل فيها العقل في حالة دوران  كسكّير مثمول و كمغزل "سالمة" حين يتفوه بما يختفي  خلف قضبان الوعي فبعض السجون ليست حيطانا  وإنما روح تتألم ولا تتكلم . حكيم ذاك المغزل الذي يدور حول نفسه ومن الفراغ يبني فراغا أخر  ينسيه الفراغ.

الجسد و الروح و الأنف و الأنفة .. 

"..و قالت...هل مازلت مصمما على تشويه جسدي.... ""( ص164) . "سالمة" سكنتها عقيدة قداسة الجسد و موسيقى التناغم بين الجسد والروح وظلت في مرضها ذات كبرياء وأنفة ترفض تشويه جسدها .وبين كبر الأنفة وكبر الأنف مسافات ضوئية لا تقاس بدرجات الإشعاع وبمعدلات الشعاع و إنما يضبطها الوعي طبقا لسٌلم الفهم والإدراك  "..هل كانت فعلا حبيبتي؟ لقد تخلت عني من أجل أنفها.هل يستحق أنف كبير،و الحق يقال، أن تهجرني من أجله أما سالمة فلم تشأ أن نلمس شبرا واحدا من جسدها... ""( ص164) .

قولون مسرطن يبعث بلدغاته الخبيثة لخلايا رحم يختفي في دهاليز جسد يعشق الحياة رغم رائحة موت بدأت تنثر غبارها داخله ... ذاك الرحم المغتصب شرعيا من رجولة متفحمة لا تفقه إلا الغوص في الأجساد الميتة يٌنبت بذور الأجنة و يهدي الحياة لها و يعيش متعشطا لرحيق الحياة "...ما أقسى أن ننجب الطفل تلو الآخر و لمّا نصبح امرأة بعد... ""( ص175) .

أنثى تهب الحياة وحياة تقسو على الأنثى وبعض الإيناث يولدن ميتات "...ارتفع أنين عائشة منذ تسعمائة واثنتي عشرة شهرا من موت سالمة... ""( ص79) وينشأن يتيمات المشاعر جافات من كل خصب ويتزوجن .. تلك هي "سالمة" ولدت ميتة  من رحم "عائشة" من قبل ست وسبعون سنة جفت جفونها وخفي بريق عينيها.".. كلهم يحتطبون من نفس الغابة،ولا يقربون شجرة المشاعر والأحاسيس.لطالما أغرتهم شجرة الحقيقة بوهم ظلالها الوارفة،وثـمارها الدانية، فيقتطفونها بكل وثوق و دون أي عناء... ""( ص119) .

رواية تختزن أطنانا من مرارة الوجع  ساقها الكاتب بأسلوب ذكي جدا تحولت فيه الأشياء الصغيرة إلى شخصيات رفيعة الظهور وبهية الحضور الركحي حيث أنطق القرداش و المغزل   والخلالة و السداية وأبكى السرير رغم قوة معدنه  فالوجع قاهر اللين والحديد ."...ماذا أفعل بأقدام تعجز عن حمل سيدتي ومساعدتها على النهوض؟ أين احصل على دموع أذرفها شفقة على عجزها و عذابها؟... ""( ص177) .

"...هل وطئت أرض المقبرة كطبيب أو كروائي... ""( ص198) .

 عندما يدرك الإنسان درجة  الثراء النفسي تٌزهر  كل مفاهيم الإنسانية في تربة روحه التي تصبح لزجة  كالطين  كلما لمسته فاحت رائحة الإنسانية في كفك. فالطبيب الروائي والروائي الطبيب دخل المقبرة كإنسان دون أن يشعر.ومفاهيم الإنسانية في هذه الرواية عصية عن غبار كل الإيديولوجيات السياسية  والدينية. فاليهودية ليست مسؤولة عن غطرسة الصهيونية، وتبقى الأقليات المتجذرة في تاريخ هذا الوطن محتفظة بكل حقوقها الكونية مهما تنوعت الديانات  "...كيف يضحي الإنسان بنفسه من أجل يهودي؟... ""( ص192) .

رواية "القرداش" حكاية تسكنها حكايات .وهي قرداش  إبداعي بين فكيه تشابكت خصلات من التأملات والتساؤلات يحاول الكاتب فك شفرتها عبرسكنات الدكتور "سفيان بن خليفة وخلجات "سالمة"  بين رائحة الموت وشذى الحياة التي بقيت عالقة في مسام الروح .

واقع أغرب من الخيال وظاهر أعمق من الباطن وباطن يرتفع إلى حدود الظاهر لكشف خبايا الروح .فبعض الروايات  تكتب نفسها بنفسها و تتفرع الحوارات الجدلية  والتأملية  فيها لتصنع محركا للسردية "..تصفحت المخطوط في ضجر.بياض مقيت يتخلل الصفحات، لا يملأها غير الحوار الذي دار بيني و بين سالمة.هل تٌبنى الرواية على الحوار وحده؟ ليس لي قصة لأرويها... ""( ص188) .

و يظل الشخوص في هذه الرواية شواهد على صدق  ما خط من أحداث  باطنية تستعصي على التشخيص الطبي العادي فما أحوجنا إلى أطباء الروح حتى نصل مرحلة النشوة الذهنية  والروحية"...ليس سهلا أن يقطع  حبل الحكاية قبل بلوغ النشوة.... ""( ص91) .

من أجـــمل ما خٌطّ في هــــذه الرواية  نفحات السطر الأخير منها التي جاءت لتختزل رحلة أدبية  أخصب من رحم أنثى"...رحـــلت.سالمة، لكنها نســـجت من حولنا رحـــما ضخما جبارا... "( ص202) 

وبين مخاض ومخاض يولد الإبداع من رحم إصدارت تأتيك في زحمة تقاطعاتك الحياتية.  

فردوس مرزوق





اضف تعليقك :

أحدث أقدم